0
0
0
عقب انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، دخل العالم حقبة تاريخية جديدة، شهدت اضطرابا كبيراً فيما يخص الحقل التنظيري للعلاقات الدولية، بفعل الإنهاك الذي اعترى الأنظمة الكبرى، والنظريات والإطارات المفهومية الشمولية، وتفتت منظوماتها الفكرية ومرجعياتها المنتجة للمعنى، مما أطاح بالعديد من الطروحات النظرية والثوابت الفكرية، التي كانت تحكم صيرورات السياسة الدولية على مختلف الأصعدة، ولم تعد "البراديغمات" أو النظريات الكلاسيكية قادرة على فهم واقع المرحلة الدولية الجديدة وتفسيرها وتأطيرها، فظهرت مجموعة من الطروحات تحاول تفسير الأوضاع والعلاقات الدولية الجديدة، بغية فهمها ومنحها معنى جديداً، كأطروحة "نهاية التاريخ" لفوكوياما، التي ظهرت عام 1989 في شكل مقالة، وأطروحة "الفوضى"، التي تنبأ المنظرون عبرها بأن العالم مقبل على انهيار تام للسلطة السياسية، وأطروحة "صدام الحضارات" عام 1993، التي ظهرت في فترة انتقالية جذرية، عصفت بالكثير من الثوابت والتفاعلات الثقافية والسياسية والاجتماعية بعد انتهاء الحرب الباردة، والفكرة الأساسية التي ينطلق منها صاحب هذه النظرية؛ صاموئيل هنتجتون، هي أن الحضارة تمثل العامل الجديد الذي سيتحكم في صيرورة العلاقات الدولية، وهكذا فإن الانقسامات الكبرى في العالم ستكون انقسامات ثقافية، تتصادم في إطارها مجموعة من الكتل الحضارية المتنافسة. وقد لاقت أطروحة "صدام الحضارات" في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر رواجاً هائلاً في الإعلام الغربي، وأصبح خطابها حاضراً بقوة على مختلف المستويات، رغم محاولة العديد من المفكرين والمحللين السياسيين تفنيد هذه الأطروحة.
ويحاول محمد سعدي عبر كتابه "مستقبل العلاقات الدولية: من صراع الحضارات إلى أنسنة الحضارة وثقافة السلام" استشراف مستقبل العلاقات الدولية في ظل نظرية "صدام الحضارات" باعتبارها إحدى النظريات التي حاولت وضع أسس جديدة لفهم التطورات الرئيسة في السياسات العالمية، وبناء رؤية مستقبلية جديدة للعلاقات الدولية بعد الحرب الباردة، ويرى الباحث أن هذه الأطروحة تعكس بوضوح بعض الاتجاهات السائدة داخل دوائر التفكير الاستراتيجي في الولايات المتحدة، التي نظرت إلى الأطروحة بوصفها أول محاولة تهدف إلى ملء الفراغ النظري، وتفلسف سياسة ما بعد الحرب البادرة، وتقدم إطاراً عقائدياً لها، مما جعلها محوراً استكشافياً جذب الكثير من المفكرين والمخططين الاستراتيجيين، لتفسير الوضع الدولي الجديد، والبحث عن معايير جديدة لتحديد الرؤية المستقبلية لما هو قادم.