العلاقات بين الأندلس الإسلامية وإسبانيا النصرانية في عهد بني أمية وملوك الطوائف ( 543 صفحه)
الطبعة 1
العلاقات بين الأندلس الإسلامية وإسبانيا النصرانية في عهد بني أمية وملوك الطوائف
هذه الدراسة للعلاقة بين الممالك الإسلامية والنصرانية في إسبانيا في هذه العصور، ما هي إلا محاولة للوقوف على مظاهر الاحتكاك ونتائجه بين هذه الممالك، سواء كان هذا الاحتكاك سياسياً أم عسكرياً أم حضارياً. وتاريخ الإسلام، في هذه البلاد يظهره ذلك الاحتكاك الذي نشب بينه وبين النصرانية، والذي نسميه عادة بالعلاقات، منذ ظهرت دعوة الإسلام وحتى العصر الحديث. ومن هنا تبرز أهمية دراسة العلاقات بين الإسلام والنصرانية على أرض شبه الجزيرة. إذا كانت تلك الأرض ميداناً رحباً، تصارعت فيه العقيدتان وجهاً لوجه مدة أربعة قرون متصلة، تبادلاً فيها النصر والهزيمة، حتى كتب الفوز في نهايتها للمسلمين بانتصارهم في موقعة الزلاقة عام 479هـ/1086م. وليس معنى ذلك أن الصراع قد توقف وإنما استمر عدة قرون أخرى كتب في نهايتها النصر للنصرانية، وتم إخراج المسلمين في الأندلس، ولكننا نقصر حديثنا الآن على فترة الصراع الأولى التي استمرت حتى اقتربت نهاية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، خاصة وأنه لم يعن أحد حتى الآن بإبراز العلاقات بين مسلمي الأندلس ونصارى الإسبان أو قام بدراستها في تلك الفترة، وذلك لغموض كثير من جوانبها السياسية ولصعوبة الخوض في دراسة تأثيراتها الحضارية المتبادلة بين الجانبين، إذ أن القوى السياسية وخاصة النصرانية، لم تتشكل كلها في وقت واحد، ولم تأخذ شكلها النهائي إلا بعد عصور عديدة، وكانت دائماً في تطور مستمر. ففي عصر الولاة، كانت هناك دولة نصرانية واحدة في الشمال الإسباني هي دولة جليقية واشتريس، وفي عصر الإمارة الأموية، كانت هناك دولتان نصرانيتان، هما دولة جليقية السابقة ودولة نبرة (نافار). وفي عصر الخلافة صارت ثلاثاً، هي جليقية التي تسمت باسم ليون، ونبرة وقشتالة، وفي عصر ممالك الطوائف صارت أربعاً، هي الدول السابقة مضافاً إليها دولة جديدة هي دولة أرغونة. هذا بخلاف إمارة برشلونة التي كانت تتبع ملوك الفرنجة في فرنسا. هذا الاحتكاك بين المسلمين والمسيحيين في إسبانيا سواء كان أثناء الحروب أم أثناء فترات السلم، وما أكثرها وأطولها، كان له تأثيره على الطرفين في مجال الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. وكانت الأندلس أشد تأثيراً، لأنها كانت صاحبة الحضارة الأقوى، ومن هنا كان لها تأثيرها الشديد على ممالك النصرانية في الشمال الإسباني. وعن هذا الطريق امتدت تلك الحضارة إلى جنوب فرنسا وإلى كثير من أنحاء أوروبا. ومن هنا كان لدراسة العلاقات بين الأندلس الإسلامية وإسبانيا النصرانية أهمية كبرى من تلك الزاوية. وتبدأ العلاقات السياسية والحضارية بين الدولتين بعد تمام الفتح بفترة وجيزة، ذلك أن المسلمين كانوا قد تركوا الركن الشمالي الغربي من شبه الجزيرة دون فتح، استصغاراً لشأنه، ونظراً لبرودته الشديدة، ولطبيعته الصخرية القاحلة. وفي هذه المنطقة ظهر نبيل قبطى يدعى بلاى. استطاع هذا النبيل أن يستثير أهل إقليمه المسمى اشتريس الواقع شمالي جليقية، ويقيم هناك أول مملكة نصرانية، هي مملكة جليقية واشتريس، منذ بداية القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي. ولم تعد إسبانيا منذ ذلك التاريخ قطراً إسلامياً خالصاً، وانقسمت إلى دولة مسيحية في أقصى الشمال، ودولة إسلامية في باقي شبه الجزيرة، وسوف تسير كل منهما في طريقها، وسوف يستمر الصراع بينهما أثناء فترة الحكم الأموي، وفي فترة حكم ملوك الطوائف. وكانت الغاية في هذا الصراع للمسلمين أيام الأمويين، ولنصارى الشمال أيام ملوك الطوائف، ثم عادت الغلبة مرة ثانية للمسلمين في نهاية عصر الطوائف على يد المرابطين، عقب موقعة الزلاقة عام 479هـ/1086م. وقد قسم هذا البحث إلى مقدمة تاريخية وأربعة أبواب. تحدثت المقدمة عن أحوال الأندلس الإسلامية في عصر الولاة (95-138هـ) وعن العوامل التي أدت إلى قيام المقاومة النصرانية، ممثلة في مملكة جليقية واشتريس، وإلى انتهازها فرصة الصراع القبلى في الأندلس الإسلامية، فقامت بالتوسع جنوباً وطردت المسلمين الموجودين في أطراف جليقية، وحازت ما يقرب من ربع شبه الجزيرة، وأصبحت حجر الزاوية للمقاومة النصرانية التي نمت وأزدادت فيما يلي ذلك من عصور. وتحدث الباب الأول، عن العلاقات السياسية بين ألأندلس الإسلامية إسبانيا النصرانية في عصر أمراء بني أمية (138-316هـ) ووضحنا سمات هذا العصر، وبين عوامل القوة والضعف التي شكلت العلاقات بين الدولتين في تلك الفترة، سواء كانت تلك العوامل تتعلق بنظم الحكم أم بظروف طبيعية وجغرافية وبشرية، أم بأسباب دينية أو اجتماعية أو اقتصادية. ثم تناول تلك العلاقات، ووضح طبيعتها وأهدافها، وما ثار من معارك وصراع، وما كان من سلام ومصالحة بين هذين الشعبين اللذين يعيشان على أرض واحدة. وكانت النتيجة أن أمراء بني أمية استطاعوا أن يصدوا هجوم نصارى الإسبان، وأن يوقفوا توسعهم، وأن يردوهم على أعقابهم كلما حاولوا العدوان، واستمرت الحدود ثابتة بينهما، ولم يخسر مسلمو الأندلس شيئاً ذا بال إلا في أواخر عصر الإمارة، حيث ضعفت تلك البلاد، لما أصابها من تشتت وتمزق وحروب أهلية. وفعل نفس الشيء في "الباب الثاني" وتحدث فيه عن العلاقات السياسية بين الأندلس الإسلامية وإسبانيا النصرانية في عصر الخلافة، وكانت القوى السياسية قد أخذت شكلها النهائية في ذلك العصر، وأصبح الشمال النصراني يضم الأقسام السياسية التي عاشت بعد ذلك واستمرت حتى نهاية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي. كما ظهرت الخلافة الأموية في الأندلس الإسلامية منذ عام 316هـ، واستمرت أكثر من قرن، ونقلت تلك البلاد إلى عصر جديد تسوده الوحدة والقوة طوال القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، ولذلك سادت وانتصرت على ممالك إسبانيا النصرانية المشتتة المتناحرة، ثم هوت الخلافة الأموية بدءاً من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وأنقلب ميزان القوة لصالح نصارى الشمال. وفي الباب الثالث، تحدث عن العلاقات السياسية بين ممالك الطوائف وبين ممالك إسبانيا النصرانية، ووضح سمات ذلك العصر، وألقى نظرة عامة على أحوال ممالك الطوائف، وبين ما انتابها من ضغط سياسي واقتصادي، وتناحر عسكري وفساد اجتماعي، وما كان لذلك من أثر على علاقاتها مع إسبانيا النصرانية. كما ألقى نظرة عامة على أحوال نصارى الشمال الإسباني، وبين ما سادهم من وحدة داخلية تحت حكم أسرة آل شانجه الكبير، وما نتج عن ذلك من ازدياد قوتهم وتفوقهم. وقد بين عوامل تلك القوة وذلك التفوق، وختم بالحديث عن العلاقات السياسية بين الدولتين في تلك الفترة، ووضح ما اصطبغت به تلك العلاقات من صبغة صليبية ميزت هذا العصر عن غيره من العصور السالفة، وأدت إلى انقلاب ميزان القوة السياسية والعسكرية لصالح إسبانيا النصرانية، حتى أنها أصبحت تتحكم في مصير شبه الجزيرة، وأصبح ملوك الطوائف مجرد ولاة يجبون لهم الضرائب ويدينون لهم بالطاعة. وفي الباب الرابع والأخير، تحدث عن أهم التأثيرات الحضارية بين الممالك الإسلامية والنصرانية في الأندلس، في عصر بني أمية وملوك الطوائف. وفي هذا الحديث تقصى العوامل التي جعلت هذه التأثيرات بين هذين الشعبين المتلاصقين ممكنة. وأبرز الدوافع والأسباب التي هيأت الفرصة لحدوثها وتفاعلها. ولا بد لهذه التأثيرات سواء كانت متبادلة أم من جانب واحد، من قنوات تسلكها لكي تصل إلى الطرف الآخر فعكفنا على البحث، و أبرز تلك القنوات أو السبل التي سلكتها التيارات الحضارية بين الجانبين، وتحدث عن مظاهرها سواء في ميدان الحياة الاجتماعية أم الثقافية أم الاقتصادية.
الزوار (713)