وفي السنوات الأخيرة من حياته قفز نجيب الكيلاني قفزة هائلة، حين انتقل إلى رصد الواقع المعاصر ومعالجته روائيا، فيما يمكن أن نطلق عليه «الواقعية الإسلامية»، وهي مختلفة عن «الواقعية الأوروبية» - الاشتراكية الانتقادية - لأنها محكومة بروح الإسلام وعدالته، وغير منحازة لطبقة أو فئة، واقعية تنحاز للحق والإنسان الذي كرمه الخالق.
وفي هذه القفزة يعالج الكيلاني قضايا المجتمع من خلال الظواهر الطارئة التي طرأت على أهله وناسه، والقيم المادية التي استجدت فأفسدت النفوس والقلوب والعقول، وجعلت المقاييس الاجتماعية تبتعد عن تحقيق العدل والحرية والتسامح والرحمة. لقد كتب نجيب الكيلاني مجموعة من الروايات الجميلة التي تستبطن الواقع والإنسان معا في رؤية إسلامية نقدية، وأسلوب متميز، استطاع أن يعتمد على السرد الحي والحوار الشفاف- محققا - ربما لأول مرة - قدرة فريدة على تضمين الحوار الروائي آيات قرآنية وأحاديث شريفة - دون أن يشعر القارئ بالافتعال أو التكلف، من هذه الروايات: «اعترافات عبدالمتجلي»، و«امرأة عبدالمتجلي» و«مملكة البلعوطي»، و«أقوال أبوالفتوح الشرقاوي»، و«أهل الحميدية»، و«الرجل الذي آمن»، و«ملكة العنب».*
وهذه المجموعة ( الكابوس وقصص أخرى ) هي مجموعة قصصية قصيرة كُتبت في أوقات متباعدة ، في الفترة ما بين 1965-1971 ولم يتيسر جمعها إلا في هذا العام .( حسب قول المؤلف )
تتألف هذه المجموعة القصصية من القصص التالية :
1. الكابوس
2. الغريب
3. ساحل الذهب
4. الجبابرة
5. العار
6. ليلة الزفاف
7. الجو بارد
8. الحلم الرائع
9. رجل في الزحام
10. قلب امرأة
11. الرجل .. والأرنب
12. الرقيق الأبيض
13. الدليل التائه
14. الإنسان والإله
15. الطريق الشاق
16. البلاد البعيدة
يتجه الدكتور الكيلاني في كتاباته كلها إلى التأكيد على الأخلاق الإسلامية في التعاملات ، ويربط بين عاقبة العمل في الدنيا وعقوبته العاجلة أو الآجلة ، وهو يحاول طرح المشاكل الواقعية التي كانت وما تزال تتضخم في المجتمع العربي والمسلم ، ويعتبر من أوسع الكتاب الإسلاميين تناولا للقضايا الدولية في كتاباته الأدبية ، مثل حديثه في روايته ( عذراء جاكرتا ) عن التناقض التي كانت تعيشه جاكرتا في عهد سوكارنو ، بين الأفكار الشيوعية المتمثلة في الحزب الحاكم ، وما يتبع ذلك من احتكار امتيازات السلطة على فئة محدودة جدا في المجتمع ، في الوقت الذي ترزح غالبية أفراد هذا المجتمع في الأحياء الفقيرة حيث المرض والفقر والأطفال العراة . وقد يستلهم الكيلاني أفكار رواياته وقصصه من وقائع تاريخية ثابتة يُعيد تصويرها وصياغتها بأسلوب مشوق يجعل الإنسان يراها أمامه بصورة تخيلية بصرية ، من ذلك مثلا ، قصة روايته ( ليالي تركستان ) التي تعد أول رواية عربية تتناول البطولات الإسلامية في تركستان الشرقية ، حيث تصور كفاح الشعب المسلم ضد أحقاد ومطامع جيرانه الصينيين والروس الذين تآمروا للقضاء على استقلاله . كما يتميز أسلوب الكيلاني بقدرته على تصوير جوانيات النفس الإنسانية ، ففي قصة ( الكابوس ) والتي تعتبر أولى قصصه في هذه المجموعة وأطولها ، يعالج موقف الحاكم الظالم يوم القيامة ، من خلال حلم أو كابوس يراه زعيم البلد ، ويستعرض من خلال الكابوس كل الأعمال السيئة التي قام بها، ويرى ضحاياه وهم ينعمون بالنعيم ، في الوقت الذي يتلظى هو من موقف الحشر وضيق الحال ، وهو في هذا العرض العميق يرسم لنا كل طبقات المجتمع التي عايشت هذا الزعيم ونالت من بطشه ، أو بطانته الفاسدة وحتى عساكره الصغار الذين كانوا يساعدونه في تنفيذ أحكام الظلم القاسية ( جال الزعيم ببصره هنا وهناك ، ملايين الرؤوس والعيون والأيدي الملوحة ، وأصوات متداخلة صاخبة تستغيث ، والحر شديد ، والغبار يكاد يزهق الأرواح ، والألسنة تتدلى ، منها ماهو بضعة سنتيمترات ، ومنها ما يبلغ نصف المتر ، الذلة تنقر الرؤوس ، وتقتلع الجلد والعشر ، وبرك سوداء تطمر الأقدام الحافية ، وهدير صاخب: الماء ..الماء .. ووجد الزعيم نفسه يصرخ معهم " الماء .. الماء " .. وأخذ الزعيم يفكر ، إنه يبحث عن مخرج .. أين مجلس الأمن القومي ؟ أين هيئة المكتب الاستشاري ؟ أين خبراء السياسة والحرب والاقتصاد والثقافة !! أين الأصدقاء الخلَّص الذين باركوا نهجه ، وطنطنوا لحكمته ، وآمنوا بآرائه ، وهللوا لكل الخطوات والتصرفات التي أقدم عليها .. لا أحد منهم اليوم معه .. لا شك أنهم الآن ورثوا مجده وعرشه ، لكم يتمنى الآن أن يرى ماهم فيه ..!)
وفي قصة ( الغريب)، لفتة عميقة لما عليه النفاق الاجتماعي ، من خلال شخصية السكرتير الذي يتلَّون بكل الألوان ليوافق مزاج مرؤوسيه حتى لو اضطر كما يقول عن نفسه ( تراني كل يوم في حال .. إما مقامر .. أو تاجر للرقيق الأبيض .. أو لص .. أو سكير عربيد .. أو تابع للسِّت ..إنني أرتحل من حال إلى حال .. كان المدير الأول مغرما بألعاب الورق ، ولابد أن أجاريه ، وكان الثاني يذوب شوقا للنساء ، و إذا لم أعمل له كقوَّاد لقطع رزقي ، أما الثالث فقد كان لصا ظريفا .. ذا فراسة نادرة .. وأما الرابع فقد كان لا يفيق من الشراب طول ليله .. يرهب زوجته وينفذ وصاياها .. ومن ثم كان لابد لي أن أذل لمركز النفوذ ..) ، ولكن الله عزوجل ليس بغافل عما يعمل الظالمون ، فعندما حاول السكرتير ذو المئة وجه أن يوافق آخر المدراء ظاهرا ليكسب وده ، وكان هذا المدير يقرب ذوي الاتجاه الديني ، كشف الله ستره عبر خاتمة منكرة فضحها على لسان زوجته ( أجل كان زوجي يسكر كل ليلة ، والغريب أنه يذهب إلى بيت المدير عند الفجر ليذهبا إلى الصلاة .. مع المدير يحمل المسبحة والسجادة والمصحف ... وفي البيت يقذف بنفسه في السهرات الحمراء ، وكان سامحه الله يقول : أعط ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله ... ما للمدير للمدير ... وما لحسّان لحسّان ( اسم السكرتير) لم يخطئ السائق الآخر يا سيدي المحقق ، وإنما المخطئ زوجي ، فقد كان سكرانا ...! وجففت زوجة حسان دموعها وقالت : كان معتدا برأيه وذكائه .. لم يكن ينافق .. كان يريد أن يصل إلى هدفه بأيسر وأضمن سبيل .. ولم يكن يهمه أن تكون الوسيلة مقبولة أو مرفوضة .. آه .. لقد مات وفي جيبه زجاجة وسكي وفي الجيب الآخر مصحف صغير ، مات غريبا !.. ثم عادت للبكاء من جديد )
وفي قصة (ساحل الذهب) ، يُبرز الكيلاني مشكلة العمالة الوافدة من شرق آسيا للعمل في دول الخليج الموعودة بوافر الثروة النفطية ، ويقصد عبر تصوير مشهد واحد في القصة هو مشهد القارب المبحرة في سيرها الطويل ، إلى تغيّر النفوس الذي يلمّ بالعمال الهنود وهم على متن السفينة ، بين مواعيد الأمل والثراء ، وضعف النفوس وطمعها ( كان السفينة غاصة بالمسافرين ، والبحر هادر صاخب مخيف ، وتمتم "سِنج" بينه وبين نفسه وكأنه يناجي حبيبته : " آه ، البحر واسع يا حبيبتي ، ووجهه مشمئز متهور .. ينضح بالغضب .. إنه ووجه الزمان شيء واحد .. الله وحده هو القادر على حمايتي .. والشمس يا حبيبتي تصب أشعتها كالجمر على الرؤوس ، ورائحة العرق والدخان والشواء تثير الغثيان ، وثرثرة المسافرين لا تنتهي ، والزحام يرغمنا على التلاصق ، ويبعث الضيق في النفوس ، وظاهرة غريبة أخرى .. كل مسافر يضع يده على جيبه .. لا يثق أحد بأحد .. عالم غريب .. كل النظرات محملة بالشك والخوف .. والأيام والليالي تمر تباعا .. والتوتر يجتاح جسدي كله يا حبيبتي .. إنني راغب في النوم ، لكني لا أستطيع أن أستغرق فيه كما كنت أفعل في أرضنا .. أرض الجوع .. والجفاف .. والعراة .. اللحظات التي أغفو فيها مليئة بالأشباح والرؤى المخيفة ، صارخة بالقلق والعذاب .. إنه الجحيم بعينه... يخيل إليّ يا حبيبتي أن جهنم سيكون عذابها من ذلك النوع النفسي البشع .. ذلك الذي يحرق ولا يميت ...آه ، انظري يا روفينا .. آه .. إنها معركة قاسية تنشب بالسكاكين والخناجر من أجل حادث سرقة ، يا للكارثة ، الدماء تسيل ، والصياح يختلط بالصرخات .. والمركب يهتز مع الصدام العنيف .. إنه لشيء رهيب .. قلبي يدق في عنف .. إنني أسمع أحد رفاق السفر يصيح " أصابت السكين الفتى .. لقد مات !" ارتجف جسدي كله يا حبيبتي .. وساد السفينة وجوم من نوع غريب ...آه ، لقد مات الرجل .. لا أعرف اسمه .. مات ومعه ماتت أمنيات وآمال كبيرة في الحب والثراء والسعادة ..ورأيتهم يا روفينا يجرِّدون القتيل من ثيابه .. ويلقون به في عرض البحر ، فيبتلعه في هدوء ، ثم تنسحب الأمواج في تتابعها الأزلي وكأنه لم يحدث شيء ، فصرخت دون وعي : " لا " .. ورأيته يا روفينا قادما نحوي ، إنه الربان المتجهم الغليظ القلب .. ثم ركلني بعنف في صدري وهدر : " كلمة أخرى تصدر منك ، سأقذف بك واءه !" )
وهكذا في كل قصة يرصد الكاتب نجيب الكيلاني مشكلة من مشاكل الواقع العربي والإسلامي المعاش ، يقدمها لنا بجوانبها التي تجعلنا نراها بأعمق مما تعودنا عليه في حياتنا اليومية ، ولكنها نظرة متميزة ، إذ أنها نظرة الأديب المسلم الذي يرى بعقيدته الصافية وينقد بفكره الطافح بوضاءة الإسلام ونور الإيمان .
اقرأ وناقش مذكرات الدكتور نجيب الكيلاني: الجزء الأول، الجزء الثاني.
أخبرنا رأيك في مجموعة "الكابوس وقصص أخرى"
طالع مكتبة الدكتور نجيب الكيلاني على رفي.
*"نجيب الكيلاني .. الواقعية الإسلامية " ،مقال : نواقد وتوقيعات، موقع الإسلام اليوم ، 20 مايو/2012