يوم كان العلماء يتنافسون في اقتناء الكتب، ويتبارون في تحصيلها واستنساخها، ويعكفون على قراءتها وإقرائها، نشطت حركة التأليف والنسخ، بل وجميع ضروب الكتاب. فإذا أوجدنا القراء وجد معهم كل شيء.
وقد أنحى الإمام ابن الجوزي رحمه الله باللائمة على ضعف الهمة في اندثار كثير من كتب العلم: قال: "كانت همم القدماء من العلماء عَلِيَّة، تدل عليها تصانيفهم، التي هي زبدة أعمارهم، إلا أن أكثر تصانيفهم دَثَرت، لأن همم الطلاب ضعفت، فصاروا يطلبون المختصرات ولا ينشطون للمطولات، ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها، فدثرت الكتب ولم تُنسخ".
هذه قصص بعض طلاب العلم ومحبي القراءة وعشاق الكتب كما جاءت في كتاب "المشوّق إلى القراءة وطلب العلم"
(1)
ذكر ابن حزم : كنت آخذ من كلّ علم طرفا، فإن سماع الإنسان قوماً يتحدثون وهو لا يدري ما يقولون غُمّة عظيمة.
(2)
قال بعض الحكماء: عليك بالعلم والإكثار منه، فإن قليله أشبه شيء بقليل الخير، وكثيره أشبه شيء بكثيره، ولن يعيب الخير إلا القلّة، فأما كثرته فإنها أمنية".
(3)
وأنشد بعضهم في طلب الاستزادة من العلم وعدم الاقتصار على فن:
احرص على كل علمٍ تبلغ الأملا.. ولا تواصل لعلمٍ واحدٍ كسلا
النحل لما رعت من كل فاكهة.. أبدت لنا الجوهرين: الشمع والعسلا
الشمع بالليل نور يستضاء به.. والشهد يبري بإذن الباري العللا
(4)
قال الإمام ابن القيم في "روضة المحبين": "وحدثني شيخنا -يعني ابن تيمية- قال: ابتدأني مرضٌ، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر على ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك، أليست النفس إذا فرحت وسُرّت وقويت الطبيعة فدفعت المرض؟ فقال: بلى، فقلت له: فإن نفسي تُسرّ بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة، فقال: هذا خارج عن علاجنا.."
(5)
نقل ابن رجب من "الفنون" لابن عقيل أنه قال عن نفسه: "أنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبز، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفّراً على مطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه".
(6)
ذكر الذهبي في "التذكرة" عن الدغولي أنه قال: "أربع مجلدات لا تفارقني سفراً وحضراً، كتاب المُزَني، وكتاب العين، والتاريخ للبخاري، وكليلة ودمنة".
(7)
قيل لرجل: من يؤنسك؟ فضرب بيده إلى كتبه، وقال: هذه، فقيل: من الناس؟ فقال: الذين فيها.
(8)
قيل: إن هذه الأبيات وغيرها كانت على باب خزانة الإمام أبي بكر القفّال.
خليلي كتابي لا يعاف وصاليا، وإن قلّ لي مالٌ وولى جماليا
كتابي عشيقي حين لم يبق معشق، أغازله لو كان يدري غزاليا
كتابي جليسي لا أخاف ملاله، محدّث صدقٍ لا يخاف ملاليا
كتابي بحر لا يغيض عطاؤه، يُفيض عليّ المال إن غاض ماليا
كتابي دليلٌ لي على خير غايةٍ، فمن ثمَ إدلالي ومنه دلاليا
(9)
قال الجاحظ في "الحيوان": من لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب ألذ عنده من إنفاق عُشّاق القيان، والمستهترين بالبنيان، لم يبلغ في العلم مبلغاً رضيّاً، وليس ينتفع بإنفاقه حتى يُؤثر اتخاذ الكتب إيثار الأعرابي فرسه باللبن على عياله، وحتى يُؤمِّل في العلم ما يؤمِّل الأعرابي في فرسه.
(10)
ثلاثة لا يُعْلم أكثر منهم محبة في القراءة:
ذكر ياقوت الحموي في "إرشاد الأريب" في ترجمة الجاحظ قال: "وحدّث أبو هفان قال: لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائناً ما كان، حتى إنه كان يَكتري دكاكين الورّاقين ويبيتُ فيها للنظر.
والفتح بن خاقان، فإنه كان يحضر لمجالسة المتوكل، فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتاباً من كمه أو خفه وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عوده إليه حتى في الخلاء.
وإسماعيل بن إسحاق القاضي، فإني ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر في كتاب، أو يُقلب كتباً أو ينفضها".
(11)
قال الجاحظ في "الحيوان": "سمعت الحسن اللؤلؤي يقول: غَبَرَتْ أربعين عاماً ما قِلْتُ ولا بِتُّ ولا اتكأتُ إلا والكتاب موضوع على صدري".
(12)
مع الكتب حتى في الجنة:
ذكر ابن رجت في "ذيل الطبقات" عن ابن الجوزي أنه قال عن الإمام أبي العلاء الهمذاني الحافظ: "بلغني أنه رُئي في المنام في مدينة جميع جدرانها من الكتب، وحوله كتب لا تُحَدّ وهو مشتغل بمطالعتها. فقيل له: ما هذه الكتب؟! قال: سألت الله أن يُشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا، فأعطاني".
(13)
كان العلامة النحوي ابن الخشاب إذا حضر سوق الكتب، وأراد شراء كتاب، غافل الناس وقطع منه ورقة، وقال: إنه مقطوع ليأخذه بثمن بخسٍ! وذكر ياقوت أيضاً أنه كان إذا استعار من أحدٍ كتاباً وطالبه به، قال: دخل بين الكتب فلا أقدر عليه!
(14)
ذكر ابن رجب في "الذيل" في ترجمة عبد الصمد بن أحمد ابن أبي الجيش البغدادي العلامة المتفنن أنه صنّف خطباً انفرد بفنها وأسلوبها وما فيها من الصنعة والفصاحة، وجمع منها شيئاً كثيراً، ذهب في واقعة بغداد (هجوم التتار عليها) مع كتب له أخرى بخطه وأصوله حتى كان يقول: "في قلبي حسرتان: ولدي وكتبي" (وكانا قد فقدا جميعاً في واقعة بغداد).
(15)
في ترجمة العلامة النحوي أحمد بن يحيى المعروف بثعلب من كتاب "وفيات الأعيان" لابن خلكان قال: "كان سبب وفاته: أنه خرج من الجامع يوم الجمعة بعد العصر، وكان قد لحقه صمم لا يسمع إلا بعد تعب، وكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق، فصدمته فرس، فألقته في هوة، فأخرج منها وهو كالمختلط، فحمل إلى منزله على تلك الحال وهو يتأوه من رأسه، فمات ثاني يوم".
(16)
وهذا الشيخ محمد بدر الدين الحسني العلامة المحدث (حفظ الصحيحين غيباً بأسانيدهما، ونحو "20 ألف" بيت من المتون العلمية)، كان شديد التشاغل بالعلم والعكوف على طلبه والانقطاع إليهن حتى بلغ من ذلك شيئاً عظيماً، قال الشيخ علي الطنطاوي "بل كان يجلس في الليل ليقرأ، فإذا غلبه النعاس اتكأ برأسه على وسائد أعدت له، فأغفى ساعتين أو ثلاثاً من الليل متقطعات، ومن النهار ساعة".
وقال: كان يقرأ دائماً لا يشغله عن القراءة إلا أن يكون نائماً أو في صلاة أو درس، أو في طريقه من المسجد إلى البيت، ما فارق الكتب قط، ولا استعان على النظر بنظارة، وقد مات حديد البصر صحيحه، وما أحب في الدنيا غير الكتب.. فكان يشتري الكتاب يسمع به ولو كان مطبوعاً في أقصى الهند، ويشتري المخطوط ولو بوزنه ذهباً، ولا يدع كتاباً حتى يقرأه، أو يتصفحه تصفح المتثبت..".
(17)
علي الطنطاوي له مقال في "الذكريات" عنوانه "شغلي الدائم المطالعة" ذكر فيه ولعه الدائم بالمطالعة من صغره وهو في المدرسة الابتدائية بدون إرشاد مرشد ولا تعليم معلم ثم قال: "فأنا اليوم، وأنا بالأمس، كما كنت في الصغر، أمضي يومي أكثره في الدار أقرأ، وربما مر علي يوم أقرأ فيه ثلاثمئة صفحة، ومعدل قراءتي مئة صفحة من سنة 1340 إلى هذه السنة 1402. اثنان وستون سنة. احسبوا كم يوماً فيها، واضربوها بمئة، تعرفوا كم صفحة قرأت. أقرأ في كل موضوع، حتى في الموضوعات العلمية."
هذا مع اشتغاله بالقضاء في دمشق (كل يوم ثلاثون قضية) مع الإشراف على مجالس التحكيم، والعمل رئيساً لثلاثة مجالس، الأوقاف، والأيتام والمجلس الأعلى للكليات الشرعية، مع إلقاء دروس في الكية، والثانوية للبنين والبنات، وكان إلى جانب ذلك خطيب جمعة، ومحاضراً في النوادي، وله أحاديث في الإذاعة، وكتابة يومية في إحدى الجرائد. كان يصنع هذا كله!! ومع ذلك كان يقرأ كل يوم مئتين أو ثلاثمئة صفحة، قال: "وأنا مستمر على ذلك من يوم تعلمت القراءة، وأنا صغير، أي: من نحو سبعين سنة إلا قليلاً، أصرف فضل وقتي كله في القراءة".
* الصورة للشيخ الألباني رحمه الله