العقاد: لماذا هويت القراءة؟
أضيف بواسطة: , منذ ٩ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 6 د


أول ما يخطر على البال - حين يوجه هذا السؤال إلي أحد مشتغل بالكتابة - أنه سيقول أنني أهوى القراءة لأنني أهوى الكتابة ! 

ولكن الواقع أن الذي يقرأ ليكتب وكفى هو " موصل رسائل " ليس إلا أو هو كاتب " بالتبعية " وليس كاتباً بالأصالة. فلو لم يسبقه كتاب آخرون لما كان كاتباً على الإطلاق، ولو لم يكن أحد قبله قد قال شيئا لما كان عنده شيء يقوله للقراء.

وأنا أعلم فيما أعهده من تجاربي أنني قد أقرأ كتبا كثيرة لا أقصد الكتابة في موضوعاتها على الإطلاق وأذكر من ذلك أن أديباً زارني فوجد على مكتبي بعض المجلدات في غرائز الحشرات فقال مستغرباً: ومالك أنت وللحشرات؟ إنك تكتب في الأدب وما إليه، فأية علاقة للحشرات بالشعر والنقد والاجتماع ؟

ولو شئت لأطلت في جوابه ولكنني أردت أن أقتضب الكلام بفكاهة تبدو كأنها جواب وليس فيها جواب .

فقلت : نسيت أنني أكتب أيضاً في السياسة !

قال نعم: نسيت، والحق معك ! فما يستغني عن العلم بطبائع الحشرات رجل يكتب عن السياسة والسياسيين في هذه الأيام .

والحقيقة كما قلت مرارا أن الأحياء الدنيا هي "مسودات" الخلق التي تتراءى فيها نيات الخالق كما تتراءى في النسخة المنقحة، وقد تظهر من "المسودة" أكثر ما تظهر بعد التنقيح. فإذا اطلع القارئ على كتاب في الحشرات، فليس من اللازم اللازب أن يطلع عليه ليكتب في موضوعه، ولكنه يطلع عليه لينفذ إلى بواطن الطبائع وأصولها الأولى، ويعرف من ثم كيف نشأ هذا الإحساس أو ذاك الإحساس فيقترب بذلك من صدق الحس وصدق التعبير ولو في غير هذا الموضوع .

كذلك لا أحب أن أجيب عن السؤال كما أجاب قارئ التاريخ في البيت المشهور : ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمره

فليست إضافة أعمار إلى العمر بالشيء المهم إلا على اعتبار واحد وهو أن يكون العمر المضاف مقدارا من الحياة لا مقدارا من السنين، أو مقدارا من مادة الحس والفكر والخيال، لا مقدارا من أخبار الوقائع وعدد السنين التي وقعت فيها. فإن ساعة من الحس والفكر والخيال تساوي مائة سنة أو مئات من السنين، ليس فيها إلا أنها شريط تسجيل لطائفة من الأخبار وطائفة من الأرقام.

كلا لست أهوى القراءة لأكتب ولا أهوى القراءة لأزداد عمرا في تقدير الحساب .

وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا وحياة واحدة لا تكفيني و لا تحرك كل مافي ضميري من بواعث الحركة والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب .

فكرتك أنت فكرة واحدة..

شعورك أنت شعور واحد..

خيالك أنت خيال فرد إذا قصرته عليك..

ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى، أو لاقيت بشعورك شعور آخر أو لاقيت بخيالك خيال غيرك فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين أو أن الشعور يصبح شعورين أو أن الخيال يصبح خيالين ... كلا . وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات من الأفكار في القوة والعمق والامتداد.

والمثل الأعلى على ذلك محسوس في عالم الحس والمشاهدة ومحسوس في عالم العطف والشعور.

ففى عالم المشاهدة يجلس المرء بين مرآتين فلا يرى إنسانا واحدا أو إنسانين اثنين ولكنه يرى عشرات متلاحقين في نظره إلى غاية ما يبلغه النظر في كل اتجاه.

وفى عالم العطف والشعور نبحث عن أقوى عاطفه تحتويها نفس الإنسان فإذا هي عاطفة الحب المتبادل بين قلبين.. لماذا؟.. لأنهما لا يحسان بالشيء الواحد كما يحس به سائر الناس..

لا يحسان به شيئا ولا شيئين وإنما يحسان به أضعافا مضاعفه لاتزال تتجاوب وتنمو مع التجاوب إلى غايه ما تتسع له نفوس الأحياء.

هكذا يصنع التقاء مرآتين وهكذا يصنع التقاء قلبين. فكيف بالتقاء العشرات من المرائي النفسية في نطاق واحد؟

وكيف بالتقاء العشرات من الضمائر والأفكار؟

إن الفكرة الواحدة جدول منفصل.

أما الأفكار المتلاقيه فهي المحيط الذي تتجمع فيه الجداول جميعا والفرق بينها وبين الفكرة المنفصلة كالفرق بين الأفق الواسع والتيار الجارف، وبين الشط الضيق والموج المحصور.

وقد تختلف الموضوعات ظاهراً أو على حسب العناوين المصطلح عليها ولكنك إذا رددتها إلى هذا الأصل كان أبعد الموضوعات كأقرب الموضوعات من وراء العناوين.

اين غرائز الحشرات مثلا من فلسفه الأديان؟

وأين فلسفه الأديان من قصيدة غزل وقصيدة هجاء؟

وأين هذه القصيدة أو تلك من تاريخ نهضة أو ثورة؟

وأين ترجمه فرد من تاريخ أمة؟

ظاهر الأمر أنها موضوعات تفترق فيما بينهما افتراق الشرق من الغرب والشمال من الجنوب.

وحقيقه الأمر أنها كلها مادة حياة، وكلها جداول تنبثق من ينبوع واحد وتعود إليه.

غرائز الحشرات بحث في أوائل الحياة.

وفلسفه الأديان بحث في الحياة الخالدة الأبدية.

وقصيدة الغزل أو قصيدة الهجاء قبسان من حياة إنسان في حالي الحب والنقمة..

ونهضه الأمم أو ثورتها هما جيشان الحياة في نفوس الملايين وسيرة الفرد العظيم معرض لحياة إنسان ممتاز بين سائر الناس.

وكلها أمواج تتلاقى في بحر واحد، وتخرج بنا من الجداول إلى المحيط الكبير..

ولم أكن أعرف حين هويت القراءة أنني أبحث عن هذا كله، أو أن هذه الهواية تصدر من هذه الرغبة.

ولكنني هويتها ونظرت في موضوعات ما أقرأ فلم أجد بينها من صلة غير هذه الصلة الجامعة و هى التي تتقارب بها القراءة عن فراشة، والقراءة عن المعري وشكسبير.

لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة.

ولكنى أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني.. ومهما يأكل الإنسان فانه لن يأكل بأكثر من معدة واحدة ومهما يلبس لن يلبس على غير جسد واحد ومهما يتنقل في البلاد فانه لن يستطيع أن يحل في مكانين. ولكنه بزاد الفكر والشعور والخيال يستطيع أن يجمع الحيوات في عمر واحد ، ويستطيع أن يضاعف فكره وشعوره وخياله كما يتضاعف الشعور بالحب المتبادل وتتضاعف الصورة بين مرآتين. 


والكتب المفضلة عندي هي كتب فلسفة الدين، وكتب التاريخ الطبيعي، وتراجم العظماء، وكتب الشعر.

إنني أقرأ هذه الكتب وأعتقد أن العلاقة بينها متينة، وإن كانت تفترق في الظاهر، لأنها ترجع إلى توسيع أفق الحياة أمام الإنسان. فكتب فلسفة الدين تبين إلى أي حد تمتد الحياة قبل الولادة وبعد الموت، وكتب التاريخ الطبيعي تبحث في أشكال الحياة المختلفة وأنواعها المتعددة، وتراجم العظماء معرض لأصناف عالية من الحياة القوية البارزة، والشعر هو ترجمان العواطف، فإنني أفضل من الكتب كل ماله مساس بسر الحياة.

وتسألني ما هو سر الحياة، فأقول على الإجمال إنني أعتقد أن الحياة أعم من الكون، وأنا ما يرى جامداً من هذه الأكوان أو مجرداً من الحياة إن هو في نظري إلا أداة لإظهار الحياة في لون من الألوان أو قوة من القوى. والحياة شيء دائم أبدي أزلي، لا بداية له ولا نهاية..

فإذا كنت تستطيع أن تعرف سر الله عرفت سر الحياة، ولكننا مطالبون بأن نحفظ لأنفسنا في هذا المحيط الذي لا نهاية له أوسع دائرة يمتد إليها شعورنا وإدراكنا. والكتب هي وسائل الوصول إلى هذه الغاية. وهي النوافذ التي تطل على حقائق الحياة، ولا تغني النوافذ عن النظر. 

ومن جهة أخرى فإن الكتب طعام الفكر، وتوجد أطعمة لكل فكر كما توجد أطعمة لكل بنية، ومن مزايا البنية القوية أنها تستخرج الغداء لنفسها من كل طعام. وكذلك الإدراك القوي يستطيع أن يجد غذاء فكرياً في كل موضوع. وعندي أن التحديد في اختيار الكتب إنما هو كالتحديد في اختيار الطعام. وكلاهما لا يكون إلا لطفل في هذا الباب أو مريض، فاقرأ ما شئت تستفد إذا كان لك فكر قادر أو معدة عقلية تستطيع أن تهضم ما يلقى فيها من الموضوعات، وإلا فاجعل القابلية حكماً لك فيما تختار لأن الجسم في الغالب يغذيه ما نشتهيه.

ولا تغني الكتب عن تجارب الحياة، ولا تغني التجارب عن الكتب، لأننا نحتاج إلى قسط من التجربة لكي نفهم حق الفهم، أما أن التجارب لا تغني عن الكتب، فذلك لأن الكتب هي تجارب آلاف من السنين في مختلف الأمم والعصور، ولا يمكن أن تبلغ تجربة الفرد الواحد أكثر من عشرات السنين.

ولا أظن أن هناك كتباً مكررة لأخرى، لأني أعتقد أن الفكرة الواحدة إذا تناولها ألف كاتب أصبحت ألف فكرة، ولم تعد فكرة واحدة.. ولهذا أتعمد أن أقرأ في الموضوع لواحد أقوال كتاب عديدين، وأشعر أن هذا أمتع وأنفع من قراءة الموضوعات المتعددة. فمثلاً أقرأ في حياة نابليون أكثر من أقوال ثلاثين كاتباً وأنا واثق من أن كل نابليون من هؤلاء هو غير نابليون الذي وصف في كتب الآخرين.

أما تأثير كل من أنواع الكتب الثلاثة: العلمية، والأدبية، والفلسفية، فهو أن الكتب العلمية تعلمنا الضبط والدقة، وتفيدنا المعارف المحدودة التي يشترك فيها جميع لناس، والكتب الأدبية توسع دائرة العطف والشعور، وتكشف لنا عن الحياة والجمال، والكتب الفلسفية تنبه البصيرة وملكة الاستقصاء وتتعدى بالقارئ من المعلوم إلى المجهول، وتنتقل به من الفروع لى الأصول.

وكل من هذه الأنواع لازم لتثقيف الإنسان، وتعريفه جوانب هذا العالم الذي يعيش فيه. وأنا أفضلها على هذا الترتيب: الأدبية، فالفلسفية، فالعلمية.

ولا يستطيع القارئ أن يحصر مقدار الفائدة التي يجنيها من كتاب، فرب كتاب يجتهد في قراءته كل الاجتهاد، ثم لا يخرج منه بطائل، ورب كتاب يتصفحه تصفحاً، ثم يترك في نفسه أثراً عميقاً يظهر في كل رأي من آرائه، وكل اتجاه من اتجاهات ذهنه، فأنت لا تعرف حق المعرفة "الطريقة" التي تضمن الفائدة التامة من قراءة الكتب، ولكن لعل أفضل ما يشار به - على الإجمال- هو ألا تكره نفسك على القراءة، وأن تدع الكتاب في اللحظة التي تشعر فيها بالفتور والاستثقال.

أما مقياس الكتاب المفيد فإنك تتبينه من كل ما يزيد معرفتك وقوتك على الإدراك والعمل وتذوق الحياة فإذا وجدت ذلك في كتاب ما، كان جديراً بالعناية والتقدير، فإننا لا نعرف إلا لنعمل أو لنشعر، أما المعرفة التي لا عمل وراءها ولا شعور فيها فخير منها عدمها. وعلى هذا المقياس تستطيع أن تفرق بين ما يصلح للثقافة والتهذيب وما لا يصلح.

عباس محمود العقاد

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء