الديستوبيا أدب المدينة الفاسدة
أضيف بواسطة: , منذ ٦ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 4 د




تُعرّف الديستوبيا Dystopia على أنها شكل أدبي يتحدث دائماً عن مجتمعات فاسدة، قد وصلت إلى الحد الذي لا رجعة فيه ولا قيمة للإنسان وحريته. إنها نوع من الأدب الخيالي الذي يصور المجتمعات المستقبلية بغرض تسليط ضوء نقدي على ممارساتها، وتحفيز الرفض البشري الطبيعي في خضوعه للسلطات الأعلى، إنه عملياً تشريح البُنى القهرية لمفهوم السلطة بكافة أشكالها، السياسية والدينية والأخلاقية والاقتصادية، التي تسعى إلى التحكم بتفاصيل حياة البشر وتحويلهم إلى أنماط متشابهة.

ظهر المصطلح لأول مرة منذ أربعة قرون مع رواية للكاتب البريطاني جوزيف هول في عام 1595 باسم عالم جديد وقديم An Old world and a new، لكن لم يأخذ هذا النمط الأدبي شكله المعروف اليوم إلا مع بداية القرن العشرين والانفجار الثقافي والاجتماعي الذي طغى على البشر بعد الحرب العالمية الأولى، وسقوط إمبراطوريات كبرى كالدولة العثمانية والنمسا، وبداية مرحلة الاستعمار ما بعد الكولونيالي للمستعمرات البريطانية والفرنسية والإيطالية والبرتغالية، والثورات الاشتراكية في الجزء الشرقي من أوروبا، والتجهيز لحرب عالمية ثانية.

في ظل هذه التحولات التاريخية الجذرية للعالم، ارتفع شأن الأدب الديستويوبي ليعبر عن مستقبل مظلم للإنسانية، وكان من أبرز الأعمال المعروفة اليوم هي رواية 1984 ومزرعة الحيوان للبريطاني جورج أورويل، وحكاية الخادمة للكندية مارغريت آتوود، والبرتقالة الآلية للبريطاني أنتوني بيرجس، والمانح للأمريكية لويس لوري، ونحن للروسي يفغيني زاماتين، وآلةالزمن والنائم ينهض للبريطاني هربرت ويلز، وغيرها الكثير من الأعمال التي عبّرت عن سقوط الحضارة الإنسانية أمام متطلبات السلطة وقوتها التي لا تهدأ.

ما يميز أدب الديستوبيا، هو قدرة أدبائه الفائقة على التنبؤ بالمستقبل المظلم للحياة، والذي في كثير من الأماكن أثبت صحته في عالم اليوم، والأكثر تميزاً هو السرعة الهائلة الرافضة للقوة السياسية المتحكمة بمصائر الناس، والتي نتج عنها ليس أدباً روائياً فقط، بل تعداه ليصبح صورة سينمائية كمحاكاة بصرية للخيال الأدبي، فأغلب أعمال أولئك الأدباء تحولت تدريجاً إلى أفلام سينمائية كان لها حظوة وحضور قوي لدى المثقف العالمي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما، كفيلم A Clockwork Orange سنة 1971 لستانلي كوبريك المأخوذ عن رواية بيرجس، وفيلم 1984 سنة 1981 لمايكل ريدفورد المأخوذ عن وراية أورويل، وأيضاً المسلسل الذي ظهر مؤخراً باسم The handmaid's tale المأخوذ عن رواية مارغريت آتوود.

وبرغم أن هذا الشكل الأدبي كان وليد تجربة أوروبية حصرية، إلا أنه انتشر اليوم ليشمل أجزاء كبرى من العالم في شرق آسيا كتجارب السياسات الشمولية في الصين وكوريا، وحتى حديثاً في بعض أدب أمريكا اللاتينية ولو انه اختلف نوعاً ما عن صورته التي تعرض المستقبل القاتم للبشرية، فكان تركيز أدباء امريكا على ديستوبيا معاصرة وقاسية وساخرة، يمكن تقديمها كوجبة سامة ونقدية كئيبة لواقع اليوم.

لكن هذا النمط الأدبي لم يبق حبيس تجربة خارجة عن العالم العربي، ففي الأدب المعاصر، بدأ اكتساح غير طبيعي لهذا الأدب لما يعانيه الوطن العربي من صور قاتمة للواقع، فكان أول من اعترض هذا النمط وألّف عليه هو نجيب محفوظ برواية رحلة ابن فطومة، وتكررت المحاولات المعاصرة كرواية واسيني الأعرج 2084 في سياق بنائي مشابه لما قدمه أورويل بروايته، ورواية الانحناء على جثة عمان للأردني أحمد الزعتري، وفيه قدّم تصوير كابوسي للواقع، ورواية عطارد للمصري محمد ربيع، والفلسطيني إبراهيم نصرالله في حرب الكلب الثانية، وأحمد خالد توفيق في روايته ممر الفئران.

وما زالت هذه التجربة الغنية الرافضة للواقع المأساوي تحتل تدريجياً هوس الأدباء للتعبير الواسع عن حالة رفض مطلقة ودفاع عميق عن أحقية البشر أن يعيشوا في عالم أفضل.

إنّ أدب الديستوبيا رغم سوداويته والكآبة المحيطة به، لكن تظهر من شقوقه ملامح لضوء نقدي يمكن أن يساهم في فهم هذا العالم وتحطيم صنميّة الواقع.

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء