الهجاء .. سحر الشعر!
أضيف بواسطة: , منذ ٥ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 10 د



كانت العرب من زمن الجاهلية ترى أن في الشعر ضرباً من الكهانة، وأن السحر والشعر يسيلان من ثقب واحد تسقيه قوة خفية، لما فيه من التقول والرجم بالغيب، وتحوير الباطل حقاً، والحق باطلاً، ثم عمدوا إلى الهجاء فجعلوه خاصة أخا السحر، لما كان الشاعر المفلق يمارسه من طقوس إذا أراد الهجاء، كأن يلبس حلة ويقلبها، أو يحلق رأسه إلا ذؤابتين، أو يدهن بالزيت شقاً منه ويترك شقاً، أو أن ينتعل فردتي حذائه متخالفتين أو يمشي بنعل واحد، بزعمهم أنه يستمد من الجن تمتمات الأذى فيجعلها في شعره للإضرار بالمهجو! 
.
هذا من جهة الشاعر، أما من جهة الشعر، فشعر الهجاء شبيه بالسحر من حيث يظهر تارة ويخفى تارات، ومن حيث أذاه وضرره بالمهجو، فمن ذلك يقول النجاشي:
قُبيِّلَةٌ لا يغدرونَ بذمة
ولا يظلمونَ النّاسَ حبةَ خَردل!
وهذا من أخبث الكلام، إذ يقول إنهم أهل جبن وعجز ومذلة!
.
أما من جهة المهجو، ففيه من الضرر والأذى ما إن نفس الشريف لتجهده حتى تناله قلاقلَ عصبية شديدة بسبب الهجاء لربما أسلمته لاعتزال الناس أو حتى يشدّ عن مرابعه كلها. وتصور على ذلك حال الزبرقان التميمي يوم هجاه الحطيئة فما انتسم إلا في المدينة النبوية شاكياً، ولولا صرامة عمر، لربما كان للأمير النجدي شأن آخر مع هذا الحطيئة. ثم انظر إلى فعل قول جرير في النميريين:
فغضَّ الطرف إنك من نميرٍ
فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا
انظر إلى التأثير النفسي الشديد الذي تركه هذا البيت في النميريين حتى يروي أبو عبيدة أنه: صار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني عامر!
وما كانت تبرد حشاشة بعض المهجوين حتى وإن قتل الهاجي! والتاريخ في هذا سافح طافح بدماء الشعراء الهجاة ليس طرفة في أولهم ولا أبو الطيب في آخرهم. لذلك، كان خيراً وأبقى أن يتقي الأشراف الشعراء بإكرامهم كما كانوا يفعلون مع الأعشى خشية من أن يلوي لسانه عليهم في الهجاء.
.
كما اعتقدوا أن لكل شاعر شيطاناً يمج في فِيهِ الشعر، وفي ذلك أخبار متفرقة واسعة، منها أنهم إذا أسروا شاعراً، عقدوا لسانه على نسعة، حتى لا ينطلق شيطانه على لسانه مشنعاً، لاعتقادهم أن الإبل متصلة بالجن، وأن النسعة (وهو حبل مظفور لرحل الناقة ولقيادتها)، يظفر شيطانه أيضاً، يتهدد عبد يغوث القحطاني الحارثي فيقول:
أقول وقد شدوا لساني بنسعة
أمعشر تيم؛ أطلقوا عن لسانيا!
والشعراء أنفسهم كثيراً ما أكدوا هذا، يقول حسان بن ثابت:
ولي صاحب من بني الشيصبان
فطوراً أقول وطوراً هُوه!
وبنو الشيصبان هنا حي من الجن كفانا الله بني الشيصبان، والشيصبان أيضاً ذكر النمل، فلعل هؤلاء الشيصبانيين يدبون في روع الشاعر مثل النمل بما يملون وينفثون والله أعلم.
ويقول جرير:
إني ليلقى علي الشعر مكتهل
من الشياطين إبليسُ الأباليس!
ويرد الفرزدق أن شيطانه هو هو شيطان جرير، إلا أنه من فم الفرزدق أخبث!
.
والأعشى من أكثرهم ذكراً لاعتضاده بالجن حين الشعر، ويزيد أن شيطانه «مسحل السكران بن جندل» رفيق له وخليل له، وأنهما متفاهمان متفقان يقول:
وما كنت ذا قول ولكن حسبتني
إذا مسحل يبري لي القول أنطق
خليلان فيما بيننا من مودةٍ
شريكــــان جني وإنس موفق!
ويفتديه بنفسه فيقول:
حياني أخي الجني نفسي فداؤه
بأفيح جياش العشيات مرجم
.
أما أبو النجم فيؤمن بتفوق الذكر، فيقول:
إني وكلّ شاعر من البَشر
شيطانه أنْثى وشَيطاني ذكر
.
وقال آخر:
إني وإن كنتُ صغير السِّنِّ
وكان في العين نُبُوٌّ عنِّي
فإنّ شيطاني كبير الجنِّ
يذهب بي في الشعر كل فنِّ!
.
ويرى المعري أن الشعر رُقي إبليس، ولعله أخذه من جرير حين تمنى أن يكون في حضرة عمر بن عبدالعزيز فاقراً لا شاعراً فقال: رأيت أميراً يعطي الفقراء ويمنع الشعراء:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه
وقد كان شيطاني من الجن راقيا!!
.
أما جوشن الكلابي، فهو وإن أثبت الشعر للجن، إلا أنه يرى أن أبياته أجود وشعره أفوق، قال لأبيه وهو على فراش موته:
فأقسم لو بقيت لقلت قولاً
أفوق به قوافي كلّ جني!
.
ومثل جوشن الجاحظ، لا يختلف في إثبات شاعرية الجن، إلا أنه يرى أن شعرها ضعيف ثقيل مكرور، ويورد على ذلك بالبيت الذي زعموا أن الجن قالته حينما قتلت حرب بن أمية والد أبي سفيان:
وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفرِ
وليس قُربَ قبرِ حربٍ قبرُ!
حيث لا يستطيع أحد أن ينشده «ثلاث مرات متصلة لا يتعتع فيها، والجن يستطيع أن ينشد أثقل شعر في الأرض وأشقه عشر مرات ولا يتعتع!» وهذه من طخطخات الجاحظ -رحمه الله- وإلا أترك للقارئ الكريم الحكم في هذا.
.
والمعري يخالف الجاحظ في هذا هازئاً، ويرى أن الشعر كله للجن، وأن لها فيه آلاف البحور، بينما ما فتئنا نحن البشر ندندن على خمسة عشر بحراً!
.
وفي رأيي، والله أعلم بالصواب، أن الجن خلق لهم عاطفة وشجن هما أشد وأقوى منهما في الناس، وأن غالب شعرهم رجز وارتجال، أما اتصالهم بالشاعر، فلا حاجة للمبالغة في المصاحبة والمناشدة والمنادمة كما فعل الشعراء الأقدمون حتى أورثوها المتأخرين، فالأمر بسيط جداً، من حيث أن لكل إنسان قريناً يلازمه في حياته كلها ليغويه ويرديه، وهو حاضر معه كل شأن وحال حتى حالة الشعر مؤيداً له في كل شر، وليس من غرض شعري فيه التحريض والفحشاء والفتنة والقذف والظلم كغرض الهجاء، فكان طبيعياً أن تبرز هذه المشاهد الشعرية في أشنع ما يكون إضراراً بالمهجوين، ثم يدعي الشاعر من بعد ذلك أنه مختص بمارد هجاء يضر ويؤذي!
.
ولا تنتهي الشواهد لو تتبعناها لإثبات أنهم كلهم في هذا الأمر يختلقون ويتقولون ويبالغون فيه لوجوه ثلاثة:
أولاً: مال أصحابهم من الجن كلهم أشراف؟ أولي جاه وسيادة وريادة من رؤساء الجن، هنا دليل لطيف على هذا الاختلاق، هو في حضور العقلية العربية في هذه السالفة، التي لا تعترف بمواهب الفقراء والمغمورين إلا ما ندر كما كان مع عنترة العبسي، فكان لزاماً أن يدعي الشاعر أن أقرانه ليسوا كغيرهم، بل أكابر الجن في جنسها، وأصحاب شرف وجاه وقوة وسؤدد من شيوخ الجن إلى بني الشنقناق وبني الشيصبان والطرطعان!!
.
ثانياً: ما رووه من وشائج القربى بين شياطين هؤلاء الشعراء، فللمخبّل شيطانة اسمها بنت عمرو، وخالها هو مسحل، وهو شيطان الأعشى، ومسحل خاله هُميم، شيطان آخر للفرزدق!!
بنت عَمْروٍ وخالها مِسحل الخير
وخالي هُميمُ صاحب عَمْرِو
و كل الثلاثة و الله من أقذع خلق الله هجاء! و حينما يظهر أن بين شياطينهم رحماً وقرابة، تكون دواعي خوف الهجاء واجتنابه في الناس أكثر.
.
وثالثاً: شيء آخر على هذا الاختلاق، هي أسماء هؤلاء الأقران التي تنعكس من طبيعة كل شاعر وخصائص جيله وعصره، رقة وجزالة، بداوة وحضارة!
فهادر بن مادر اسم شيطان النابغة الذبياني، ولافظ بن لاحظ شيطان امرئ القيس، وهبيد بن الصلادم شيطان عبيد بن الأبرص (هبيد على وزن عبيد، كأنما شيطانه حبشي استعرب)، ثم ترق الأسماء في العصور اللاحقة، فشيطان أبو نواس اسمه حسين الدنان، والبحتري طوق بن مالك، وأما العالم الشاعر ابن دريد فاسم شيطانه أبو زاجية، أما شيطان المتنبي فكأنما كان من أعراب الكوفة واسمه حارثة بن المغلّس!
.
وأخيراً، فلعل النبي (صلى الله عليه وسلم) كان ينزع عن حسان أن يتقول في هجائه قريشاً فرية وباطلاً حين يقول: اهجهم، وجبريل معك! فأي قرين هنالك إذا حضر جبريل الأمين؟
ثم كانت هذه الصور الخالبة للجياد و الغبار و النساء و اللواطم يوم يقول حسان: 
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مصغيات
على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات
يلطمهن بالخمر النساء!
وهذا كله قبل فتح مكة بزمن، لكن الإلهام كشاف الحجب ، فلما كان الفتح أغارت خيل المسلمين من أربعة مواضع فيها كداءٍ، مثيرة النقع وهو الغبار، وخرجت نساء مكة يضربن الخيول بالخمر، فتبسم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يقول لأبي بكر حوله: كيف يقول حسان، فيقول الصديق يقول يا رسول الله:
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء
قال: صدق!
.
وصدق (صلى الله عليه وآله وسلم)، والحمدلله رب العالمين.
تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء