وصية بهاء طاهر للقرّاء..
أضيف بواسطة: , منذ ٣ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 10 د

إذا كان المتنبي يقول: إن خير جليس في الزمان كتاب. فإن خير جليس معي يتمثّل في رواية جميلة.

لا متعة تفوق هذه المتعة.. في العادة أبدأ قراءة الرواية بنوع من البطء.. أقرأ صفحات قليلة في أول يوم ثم أتركها.. في اليوم التالي يتسلّل سحر الرواية إلى نفسي فأقرأ أكثر، ثم بعد ذلك أكاد أصل النهار بالليل منغمساً تماماً في القراءة إن كانت الرواية طويلة الحجم. تصبح أحداث الرواية وأشخاصها عالمي الحقيقي، ويمسي العالم الخارجي مجرّد شبح وتطفّل مزعج على دنيا الرواية. لا أبذل جهداً لكي أنساه لأنني أنساه بالفعل.

وأعرف أنني في ذلك مثل ملايين في العالم يأسرهم سحر الرواية. وكان ذلك الأسر يجعلني - مثلاً - وأنا تلميذ صغير أنتظر كل صباح في لهفة حلقات رواية (شهيرة) للكاتب الجميل سعد مكاوي في صحيفة (المصري)، وجعلني بعد ذلك في شبابي أستحث الأسبوع أن يمر لكي أقرأ في (الأهرام) الجزء الجديد من رواية نجيب محفوظ، مع انتقالي بين حين وآخر إلى صحيفة (الجمهورية) لأقرأ - مثلاً- حلقات من رواية (البيضاء) ليوسف إدريس، أو من (خليها على الله) ليحيى حقي، أو (السائرون نياماً) درّة سعد مكاوي.. ذلك حقاً هو عطر الأحباب الباقي.

وما زلت حتى الآن أقرأ باستمتاع الروايات التي تُنشر على حلقات أسبوعية في مجلة (أخبار الأدب) للجيل الجديد من الكتاب، وأستغرب جداً حين أسمع من كثير من أصدقائي أنهم لا يحبون قراءة الروايات المسلسلة.. بالنسبة لي فإن هذا يضاعف من متعتي لأنني أعايش الرواية وأبطالها فترة أطول، ولكني أفهم بالطبع أن لكل طريقته. وكل ما أريد أن أقول مما سبق هو أنني عاشق قديم للرواية أنضم إلى جمهور كبير يعشق ذلك الفن. ويبقى الآن أن أحاول الإجابة عن السؤال: لماذا؟

هناك بالطبع في المستوى الأول عنصر التسلية في الرواية، وأبرز نموذج له: الرواية البوليسية، وكل القراء أيّاً كان مستواهم الفكري والثقافي، يحبون من حين إلى آخر تزجية الوقت بقراءة رواية بوليسية أو أي عمل مسلٍّ آخر.. ولا ضير في ذلك أبداً. ثم إن أي نوع من الروايات لا ينجح في إمتاع قارئه وإثارة شغفه بما يقرأ مقضيٌّ عليه بالفشل مهما توفّر له من العمق وجودة الصياغة والنية الحسنة.. فما من إنسان يواصل قراءة رواية أو ديوان شعر أو أي عمل أدبي لكي يتململ أو يتعذب بما يقرأ ولكن الروايات التي تحدثت عنها في مستهل هذه الكلمة وما يماثلها، وتلك التي أعرض لنماذج لها في هذا الكتاب، تقدِّم لقارئها إلى جانب التسلية شيئاً أكثر وأهم.

هي روايات تجذب القارئ إلى عالمها وتجعله مشاركاً بالضرورة في تأمل القضايا التي تطرحها. لا ينتهي الأمر معها بمعرفة (من القاتل؟) ثم تطرح الكتاب جانباً وتنساه؛ بل هي تعيش معك طويلاً بعد أن تفرغ من قراءتها. وكثيراً ما سمعت تعليقاً من أصدقاء على روايات أعجبتهم يقولون فيه إنهم ما إن انتهوا من الصفحة الأخيرة حتى عادوا للقراءة من الصفحة الأولى مرة أخرى. ومعنى ذلك: أنهم - وقد عرفوا كل الحكاية وانتهى الأمر مع التسلية والتشويق - يبحثون عن شيء آخر؛ وذلك أن الرواية الحقيقية تفكك الواقع المألوف وتعيد تركيبه مرة أخرى.. فنراه بنظرة جديدة أعمق وبفهم أفضل، وهي تغوص في أعماق النفس الإنسانية على نحو يتجاوز ما يمكن أن يكشفه لنا علم النفس (أوَلم يلجأ فرويد إلى روايات دستويفسكي ليجد فيها دليلاً على نظرياته التي أسست علم النفس ذاته؟!) ، وتطرح الرواية الحقيقية أيضاً أسئلة جادة عن ماهية الحياة والوجود على نحو يستفز القارئ، إن لم يكن لتقديم أجوبته الخاصة، فهو يستفزه على الأقل لأن يفكر في تلك الأسئلة. الروايات الحقيقية باختصار مرايا سحرية يرى فيها القارئ جوانب مجهولة من عالمه ومن مجتمعه ومن نفسه، أو كانت مجهولة له من قبل أن يدخل عالم الرواية (ما من رواية بطبيعة الحال تتضمن تلك الجوانب مجتمعة، ويكفي أن تنير ولو جانباً واحداً).

من أجل ذلك فإن الرواية فن له مكانته وخطره في المجتمعات المتحضرة.. هي بطبيعة الحال ليست منشورات سياسية، ولا دعوة للإصلاح الاجتماعي، ولا وصفة لعلاج الأخلاق أو النفس، وهي لا تقدّم إجابات عن الأسئلة التي يضني الفلاسفة أنفسهم في بحثها، ولكنها تشمل شيئاً من ذلك كله وتتجاوزه، وتأثيرها أبقى لأنه أبطأ وأكثر نفاذاً إلى النفس. وتحضرني هنا عبارة دالّة للروائي الفرنسي أندريه مالرو الذي كان في بداية حياته العملية وإنتاجه الأدبي في أوائل القرن العشرين ماركسياً متحمساً، وبعد أن كتب إحدى رواياته الأولى - هي الطريق الملكي" على ما أذكر - أرسل له الزعيم الماركسي المعروف "تروتسكي" نقداً للرواية على أساس أنها لا تلتزم بدقة التفسير الماركسي للتاريخ وتحليل الواقع، فردّ عليه "مالرو" بعبارة تلخص كل ما سبق؛ إذ قال: "إن رؤيتي للحياة روائية". والمعنى: أن هذه الرؤية تتجاوز أفق السياسية المحدودة إلى آفاق أرحب، يعالج فيها الروائي كل ما يعنّ له - بما في ذلك السياسة - دون أن تقيّده أي حدود.

وأذكر هنا أيضاً رواية لها تاريخ، ولعبت دوراً في التاريخ هي رواية "يوم في حياة إيفان دينيزوفتش" للكاتب الروسي "سولجنستين" الحاصل على جائزة نوبل (بعد الرواية). وتسجّل هذه الرواية يوماً في حياة معتقل روسي في سيبيريا أيام بطش ستالين، وهي تقتصر على سرد تسجيلي محايد جداً - ولكنه يكاد يعديك بالحمّى في أثناء القراءة - يصف العذاب غير الإنساني الذي يعانيه هذا المعتقل (سولجنستين نفسه).. ومع أنه كتب الرواية بعد موت ستالين، ولم يتطرق فيها إلى أي مناقشات في السياسية، فقد كان طبيعياً أن تصادرها الرقابة السوفيتية؛ لأنها إدانة لحقبة ونظام سياسين، لا لدكتاتور بعينه. واقتضى الأمر أن يتدخل رئيس الدولة - العظمى أيامها - خروشوف، الذي قرأ الرواية وصرّح بنشرها. وأحدثت الرواية دوياً هائلاً فيما عرف بمرحلة ذوبان الجليد في النظام السوفيتي (الذي تحول فيما بعد إلى طوفان كما نعرف).

وللروس تاريخ عريق منذ العهد القيصري في احترام أدبائهم وروائييهم، والإصغاء إلى الرسائل التي يبثونها في أعمالهم، وربما يتفوقون في ذلك على أي بلد أوروبي آخر.
وقد كان لنا نحن أيضاً - حتى وقت قريب - تاريخ مشابه إلى حد ما. كان للروايات الحقيقية صدى اجتماعي مؤكد لدى القراء، وتأثير على الرأي العام.

وسأتحدث فقط - وفي إشارات سريعة - عن الروايات التي لعبت دوراً في التكوين الفكري لجيلي.. قرأنا في المدرسة الثانوية (الأيام) لطه حسين، وهي رواية سيرة ذاتية، وتعلّمنا الكثير مما تضمنته من صراحة في الحديث عن النفس، وعن الفقر الذي عاناه الروائي، وعن فساد التقاليد الاجتماعية وموروث الخرافة الذي أفقده بصره، وجمود التعليم الأزهري وخوائه في عصره، وتفاوت مصائر البشر بتفاوت الثروة والمكانة الاجتماعية.. وكان بعضنا يحفظ مقاطع من الرواية لسحر أسلوب طه حسين الذي ينساب عبر الصفحات كنغم موسيقى متصل. وتفتّح وعينا ووعي أجيال متعاقبة على ثورة الأوضاع البائسة التي تصورها الرواية لتحليلها المضيء للواقع بنور الفن الرفيع لا بالشعارات ولا التحريض المباشر؛ ذلك أن رواية (الأيام) هذه كانت ضمن منهج القراءة الحرة في المدارس الثانوية الحكومية على أيامنا، توزعها علينا الوزارة بالمجان، لا لكي نُمتحن فيها في آخر السنة؛ وإنما لكي نقرأها فحسب لتدريب ذائقتنا الفنية وتشجعينا على القراءة والتفكير. وكان من بين هذه الكتب مما أذكره الآن: "يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، و"المهلهل" لمحمد فريد أبو حديد، و"أبو الهول يطير" لمحمود تيمور.. وأعتقد أن هدف المسئولين في وزارة التعليم على أيامنا من ذلك لم يخب؛ فقد تعلّم الكثير منا - بفضل هذا التوجيه للقراءة - قضاء وقت ممتع في مكتبة المدرسة الثانوية لقراءة المزيد من الروايات والأعمال الأدبية.

وهل قرأت في تلك المكتبة أيضاً رواية "قنديل أم هاشم" لـ"يحيى حقي"؟ لا أذكر، ولكنني أعرف أنها بالنسبة لجيلي ولأجيال تالية، كانت من معالم ثقافتنا، فقد ظلت منذ صدورها تحفز السؤال عن علاقتنا بالغرب، وعن علاقة تراثنا بالواقع وحقيقة هويّتنا المعاصرة.. واستمر النقاش حول الرواية طويلاً ما بين الموافقة على منهج يحيى حقّي التوفيقي والاعتراض عليه، حتى إن كاتباً كبيراً مثل الأستاذ كامل زهيري ظل يبحث عن البطل الحقيقي الذي استوحى منه يحيى حقي شخصية الدكتور اسماعيل إلى أن عثر عليه في شخص أحد السفراء!

ثم ألم يقل جمال عبد الناصر نفسه إنه تأثر برواية (عودة الروح) لتوفيق الحكيم، وإنها كانت من  عناصر تكوين فكره الثوري؟
إلى هذا الحد إذن كان للرواية دور في تكوين الوعي العام لجمهور القراء، بدءاً من صغار التلاميذ إلى كبار الكتاب وحتى زعماء الدولة!

وما دمت أتحدث عن تأثير الرواية كما عرفته، فسأنتقل الآن إلى سنوات الستينيات الحاسمة؛ فقد كان ظهور رواية جديدة لنجيب محفوظ أو يوسف إدريس أو غيرهما حدثاً مهماً يترقبه الجمهور، ويحتفى به النقاد، ويعلق عليه كبار الكتاب الصحفيين في أعمدتهم، وتصبح رواية مثل (ميرامار) أو (السائرون نياماً) موضع نقاش طويل، كثيراً ما يجر على المؤلف متاعب مع السلطة، ولكن الرواية تحقق هدفها وتصل إلى جمهورها.
ذلك ما كان من شأن الرواية كما عشته، فأما الآن؟
الآن تغير كل شيء مع الأسف!

الآن تصدر روايات وقصص بديعة، بدءاً مما يكتبه نجيب محفوظ نفسه وأجيال الروائيين التالية له حتى شباب موهوب في العشرينيات من العمر، ولكن كل هذه الروايات تسقط في بئر الصمت!
لا يتجاوز تأثير أي رواية في أيامنا هذه - مهما بلغت خطورة القضايا التي تطرحها- حدود قرائها المعدودين. وبدلا ًمن تقليب المواجع في الحديث عما آلت إليه ثقافتنا - بما في ذلك أدبنا الروائي - فسأكتفي بأن أحيل القارئ المهتم بالموضوع إلى كتابي "أبناء رفاعة.. الثقافة والحرية" إذ يرصد هذا الكتاب تراجع دور الثقافة - أو ما أسميته الاستغناء عن الثقافة - منذ مطلع السبعينيات بفضل جهد عمدي من الدولة ومؤسساتها لتهميش دور الثقافة والمثقفين في المجتمع وفي الحياة العامة.
وأكرر أن الرواية الآن تعيش - إبداعاً - أزهى عصورها، ولا يكاد حتى القارئ النهم يجد الوقت الكافي لمتابعة كل الإنتاج الجديد. والرواية الآن تقتحم آفاقاً غير مسبوقة في أساليب الإبداع الفني وبجرأة غير مسبوقة أيضاً في تسليط الضوء على الأوجاع الحقيقية للمجتمع، ولكن دون أن يكون لذلك أي صدى حقيقي في المجتمع المعنيّ.
وقد حدثتك من قبل عن أن جيلي تعرف على كتابنا الروائيين من خلال ما كان يوزع علينا في المدارس للاطلاع العام. وكان الهدف هو الارتقاء بالذوق الأدبي لدى الطلاب بالاطلاع على أعمال الأدباء المعاصرين، وتشجيع الإبداع الأدبي في الوقت نفسه؛ فقد كان طه حسين والروائيون الآخرون الذين سميتهم في أوج إبداعهم الأدبي أيامها، أما الآن فانظر إلى تعليم الأدب في مدارسنا.. اختفت أولاً فكرة القراءة الحرة، أما المناهج الرسمية فلن تجد فيها منذ سنوات طويلة وحتى الآن رواية واحدة لكاتب معاصر، ولن تجد حتى حديثاً عن الإبداع الروائي المعاصر يقيم صلة بين قراء اليوم و الغد وثقافة وطنهم، بل إن المرء يكاد يجزم بأن المسئولين عن التعليم والثقافة في بلدنا لم يقرءوا رواية مصرية أو عربية واحدة لكاتب معاصر؛ بحيث نتوقع منهم أن يتحمسوا للتعريف بأدبنا الروائي أو بنشره كما كان الحال من قبل. فالمناسبات الوحيدة التي ينشطون فيها هنا هي المطالبة بمصادرة إحدى الروايات، أو بتقديم أحد الروائيين للمحاكمة! وفي غير هذين الحالين التعيسين لم أسمع أحداً منهم يتحدث عن رواية (أو عن ديوان شعر، أو عن أي أدب من أي نوع) مدحاً أو ذماً، فقد وصلت ظاهرة الاستغناء عن الثقافة إلى غايتها وحققت مرادها.
وما تقوله عن أجهزة التعليم والثقافة يمكنك أن تقول مثله وأسوأ عن الإعلام.. فبعد أن كانت الروايات والأدب موضوعاً أثيراً للكتاب في الصحافة - وهي وسيلة الإعلام الأساسية في ذلك الوقت - انزوى الاهتمام بالأدب في صفحات معدودة متخصصة، ليست موجهة للقارئ العادي، بل هي منفرة له، وذلك نفسه هو الحال في الوسائط الأحدث، لا سيما التلفزيون؛ حيث تم نفي الثقافة إلى البرامج المتخصصة المتعالية على الجمهور العادي والبعيدة عن متناوله.

ولم يكن هذا هو الدور المنوط بالإعلام من قبل والذي كان يؤديه طوعاً، إذ كان هو همزة الوصل الفعالة التي تثير الاهتمام بالأعمال الأدبية وبالقضايا التي يطرحها الأدباء في أعمالهم، والتي تبقي هذا الاهتمام حياً ومتجدداً فتسهم بذلك في تكوين وترسيخ الثقافة الوطنية. وقد غير الإعلان دوره الآن ليسهم في ترويج وتوطيد ثقافة كرة القدم، وثقافات مماثلة استبدلت بثقافة الوعي والسماحة والمسئولية وحب الجمال التي تربينا عليها وبها قيم الاعتزاز بالجهل، والتعصب، والفهلوة ،والقبح، وأًصبحت هذه القيم "ثقافة" جديدة لها رسوخ الأهرام.

أقصى ما يطمح إليه أي روائي الآن (إن وجد من ينشر له عمله دون أن يدفع بنفسه ثمن النشر) هو أن يتناول أحد النقاد عمله في مقال قصير أو طويل في مجلة ثقافية أو في إحدى الصفحات الأدبية أو البرامج الثقافية المتخصصة، ثم ينتهي الأمر بعد ذلك بالرواية إلى غياهب النسيان.
وخلاصة القول: إنه لولا قلة من القراء - لا أعرف بأي معجزة ما زالت باقية في هذه الظروف، وما زالت قادرة على فرز الأعمال الجيدة وإبقائها حية في ذاكرتنا الثقافية - لولا هذه القلة المكافحة للظروف الطاردة، لاندثر فن الرواية مثلما لقي فن المسرح عندنا مصرعه من قبل.

وإلى هذه القلة الوفية إذن التي أعلق عليها آمالاً تتجاوز إنقاذ الرواية، فإنني أهدي هذا الكتاب (في مديح الرواية)، وهو ليس كتاباً لنقد الرواية، بل هو العكس كما يسجل العنوان بأمانة قراءة مادحة لبعض الروايات والروائيين ممن أحببت. ليسوا هم كل من أحببت بالطبع وإلا لاحتاج الأمر كتباً كثيرة، إنما كان للمصادفة وحدها فضل في تجميع هذه الفصول، فهي روايات كتبت عنها في بعض الصحف والمجلات، أو تحدثت عنها في بعض الندوات، واحتفظت بما قلته عنها. وإذ لا تزعم هذه الفصول كونها نقداً (ناهيك عن أن تكون تأريخاً، أو انتقاء لأفضل الروايات المعاصرة)، فقد يجد القارئ مع ذلك أنها تطرح في كل فصل من فصولها مسألة أو مسائل تتعلق بفن الرواية، نابعة من صميم العمل المقروء، لا من نظريات وأفكار مسبقة تزعم ما ينبغي أن يكون عليه الفن الروائي؛ إذ ليست هناك - في ظني- قواعد للرواية سوى أنها ما يكتبه روائيون موهوبون سواء جاء إبداعهم احتذاء لمثال سابق أو ابتكاراً جديداً على غير مثال.
والقارئ المدرب قادر على اكتشاف الرواية الحقيقية من الزائفة.

غير أن كل رواية تحتاج إلى اجتياز اختبارين مهمين، الاختبار الأول هو: حكم الجمهور، غير أن هذا الحكم قد يصيب وقد يخطئ، بمعنى: أن بعض الروايات قد تلقى بعد صدورها رواجاً جماهيرياً ونجاحاً كبيراً لأسباب لا علاقة لها بالفن، في حين أن روايات أخرى عظيمة قد تفشل لدى جمهور قرائها المعاصرين، وقد يعجز عن تذوقها، وأكرر أن ذلك يحدث في بعض الحالات فقط، وفي كثير من الأحيان يكون حكم الجمهور صائباً.

أما الاختبار الثاني أو الحكم النهائي الذي لا نقض فيه ولا إبرام - بلغة أهل القانون- فهو اختبار الزمن. فمع مرور السنين تسقط من ذاكرة الجمهور والأدب الروايات التي لا تستحق الاعتبار، في حين تصبح الروايات الحقيقة جزءاً من الذخيرة الباقية للفن الروائي، وتكتسب حياة متجددة مع الأجيال المتتابعة من القراء. وأنا أعتبر هذا الدرس البسيط هو أهم ما تعلمته من تجربتي كقارئ للرواية وكاتب لها، لا تخدعني مهرجانات المديح لروايات بعينها، ولا حملات الهجوم على غيرها.

أقول: لنفسي: ما زلنا في مرحلة الاختبار الأول.. مكتفياً بحكمي الخاص على ما أقرأ وذلك ما أنصح به كل قارئ عاشق للرواية، وإن كنت أعتقد أن القراء يفعلونه دون أن أقوله!


من كتاب الروائي بهاء طاهر: في مديح الرواية
تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء