في أحضان الكتب
أضيف بواسطة: , منذ ١٠ أعوام
الوقت المقدر لقراءة التدوينة: 7 د

يؤكد الكاتب المصري بلال فضل في كتابه الجميل "في أحضان الكتب" أن الكتابة عن الكتب هي أصعب فعلاً من الكتابة نفسها.. وتكمن صعوبتها في أنها تجمع أجمل ما في تلك الكتب لتقدمه في كتاب واحد.. خلال فصول الكتاب ينقلنا بلال فضل بين الرواية العربية والتركية والأمريكية والإنجليزية ويسرد لنا قائمة بالكتب الأجمل والمؤلفين الأقرب إلى روحه مختتماً الكتاب بنصيحة رائعة يقول فيها:"استعينوا بـ "أحلى الكتب" على مرار الزمن ووعثاء الحياة"! هذا بعض ما جاء في الكتاب:

 (1)

دوستويفسكي

لم يكن دوستويفسكي مجرد حكاء عظيم، مع أن ذلك ليس أمراً هيناً على الإطلاق، بل كان مع ذلك وقبله خبيراً في تشريح النفس البشرية بشكل يجعل رواياته عابرة للأزمنة. كثير مما يجري حولك وتظنه ألغازاً عصية على الفهم أو ظواهر جديدة لم تشهدها البشرية من قبل ستجده في روايات دوستويفسكي، اكتشف ذلك بنفسك وأنت تقرأ أياً من رواياته، وكلها مترجمة إلى العربية على يد الكاتب السوري العظيم سامي الدروبي- رحمه الله- ستجد نسخاً من تلك الروايات على الإنترنت دون أن تجد حرجاً في تحميلها، فقد سقطت بحكم السنين حقوق ملكيتها الفكرية، إذا كانت القراءة الإليكترونية ترهقك ستجد نسخاً غالية الثمن منها في المكتبات، هناك نسخ زهيدة الثمن نشرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب لكنها للأسف مليئة بالأخطاء المطبعية التي تجعل قراءتها عذاباً مقيماً، وحتى تتنبه الهيئة إلى ذلك فتعيد طباعة تلك الأعمال بذمة، أرجوك لا تحرم نفسك من قراءة دوستويفسكي لكي تحاول فهم ما يحدث حولك ولك.

(2)

جورج أورويل

أحياناً تظلم الروايات العظيمة كاتبها، فتحجب عن الناس عظمة أعمال أخرى كتبها لم يكن لها نفس الحظ من الذيوع والانتشار، حدث ذلك مع كتّاب كثيرين على رأسهم أحد كتّابي المفضلين، البريطاني العظيم جورج أورويل الذي لم تشتهر له بين الناس في بلادنا وفي غير بلادنا إلا روايتان فقط هم "(1984) و(مزرعة الحيوانات)، وهما عملان أدبيان كبيران ورائعان بدون شك، وقد حققتا عن جدارة مبيعات لم يحققها كتاب آخر في العالم في القرن العشرين طبقاً لإحصائيات دولية، لكنهما كانتا سبباً في ظلم الكثير من أعمال أورويل المتميزة مثل ( متشرداً في باريس ولندن ) و(الطريق إلى رصيف ويغان ) و (أيام بورمية )، وأخيراً روايته (الصعود إلى الهواء ) التي قرأتها بترجمة أسعد الحسين..

(3)

الصعود إلى الهواء

في روايته "الصعود إلى الهواء" يحاول جورج أورويل الإجابة على السؤال الذي طرحه من قبل الفيلسوف العظيم نيتشه، وقد عاني جورج أورويل وهو يحاول العثور على إجابة له خلال فترة صعود الأفكار الفاشية والنازية لتكون أكبر خطر يهدد أوروبا في فترة ما بين الحربين العالميتين، حيث يتحدث بطل الرواية دائماً عن نفسه بنبرة ساخرة لا تخلو من المرارة، بل يسودها تصالح شديد مع كل ما هو عليه، فهو متصالح مع زوجته التي لم يكن يفهمها قبل زواجه بها، لكنه تزوجها لكي يكتشفها، متصالح مع توقعه لأي مصيبة قادمة "إن لم تقتلك الحرب فإنها ستجعلك تفكر"، متصالح مع كراهيته للتعليم "المدرسة هي المكان الذي تود الابتعاد عنه دائماً"، متصالح مع تفضيله صيد السمك على القراءة "أنا لا أصنف نفسي من المثقفين لكن لو سألتني عن كتاب جيد لأجبتك الكتاب الجيد هو الذي لا يملك الشخص الوقت لقراءته"..

(4)

المؤمن الصادق

"لا يوجد في الدنيا عامل يوحد الناس أكثر من الكراهية" هكذا يقول المفكر الأمريكي إيريك هوفر في كتابه "المؤمن الصادق" بعد أن درس صعود الحركات الفاشية والنازية قبل منتصف القرن العشرين، ورصد كيف تجتذب الكراهية الشخص من نفسه وتنسيه ما حوله ويومه ومستقبله، وتحرره من الرغبة في الإنجاز، ليتحرق شوقاً إلى الالتحام بمن يشاركونه في الكراهية ليشكلوا معاً جمهوراً شديد الاشتعال تقوده كراهية الذين تعرضوا للظلم على أيديهم، لكنه لا ينتبه إلى حقيقة مهمة هي أن الكراهية تجعله يعيد صياغة نفسه على شكل ظالميه..

(5)

عزيز نيسين

بين حين وآخر يسألني الكثيرون: كيف تكتب بهذه الكثافة؟ يقولون إن هناك جنيات وساحرات يلهمن الكتّاب والفنانين.. عن نفسي لا أملك ساحرة إلهام، ولكنني أملك جنية إلهام وغول إلهام، جنياتي لا يشبهن البشر ابداً، إنهن يمتلكن عشرة بالمائة من الإنسانية، وتسعين بالمائة من أشكال الوحوش، جنياتي لا تعشن فرادى بل على شكل قطعان، الساحرات منهن قبيحات الشكل والمنظر، والجنيات رائعات الخُلق والخَلق، الساحرات تضربنني والجنيات تمسّدن شعري وجسدي، جنيات الإلهام وساحرات الوحي، عندما تهمسن في أذن الفنان تلهمنه وتفتحن أمامه أبواب الفن والإبداع، ولكن ساحراتي وجنياتي يتعلقن على ظهري دائماً ويضربنني كالوحوش ويصرخن في وجهي. هيا اكتب، لا تتوقف اكتب. لماذا أنت متوقف هكذا؟ من سمح لك أن تنام؟ هيا استيقظ. لا تجلس هكذا. هيا تحرك بسرعة. لا يحق لك أن تمرض أو تكتئب أو تتوقف. هيا تحرك. اكتب.. إذا لم أكتب، ماذا أفعل يعني؟ من زمان تعلمت أن لا شيء يلهم الإنسان ويدفعه إلى العمل الزائد مثل الحذاء المثقوب.. عندما أنظر إلى المروج الخضراء الندية أتمنى التمدد فوقها طولاً وعرضاً حتى لو لحظات. لو أستطيع المشي حافياً فوق الرمال. أحس وكأن تعب السنين الماضية من حياتي سيغرق في جوف الأرض،سيأتي يوم أرتاح فيه نهائياً، ولكن مع الأسف لا أعرف إذا كنت سأرتاح فيه من التعب أم لا عندما يسألني أحدهم كيف تستطيع الكتابة بهذا الشكل؟ أشعر حقاً بغضب خفي مفاجئ كأننا نكتب على كيفنا. نكتب لأننا في ضائقة. في فاقة. ولكن لو حصل شيء لا يمكن تصديقه وولدت مرة ثانية وجئت إلى الحياة مرة أخرى فلن أستطيع اختيار سوى هذه الطريق، أظل هكذا، أتمنى الرحيل سعيداً من تعب هذا العالم اللذيذ. أكتب بمواضيع مختلفة. أبحث في أمور كثيرة وأبدع في متاهات الأدب المختلفة، وأعتقد أن سبب ذلك يعود إلى معاشرتي لجميع طبقات المجتمع عندنا ، وعملي كبائع أحذية وراع وجندي ومحاسب ورسام وبائع صحف وماسح أحذية وبقال وحلاق وكاتب صحفي، أما البطالة فقد كانت من أصعب المسالك على الإطلاق. عزيز نيسين في مقدمة سيرته الذاتية "هكذا أتينا إلى الحياة"

(6)

جائزة نوبل

تتعمد جائزة نوبل إغاظتي كل عام باختيار كُتّاب لم أسمع عنهم من قبل ولم أقرأ لهم حرفاً واحداً، لمجرد إظهاري بمظهر الجاهل أمام أصدقائي الذين يعلمون غرامي بالروايات المترجمة وحرصي على اقتنائها إلى حد السفه، ومع ذلك وعلى مدى السنوات الماضية التي توسعت فيها متابعتي للروايات الأجنبية المترجمة إلى العربية، كلما أعلن اسم الفائز بنوبل للآداب يجدونني جاهلاً باسم الفائز، وحتى في حالة معرفتي طشاشا باسمه، يكتشفون أنني لا أمتلك له عملاً واحداً في مكتبتي، لأنه لا توجد له أصلاً أي أعمال في كل المكتبات، مما كوّن لديهم بمرور السنين انطباعاً أن كل من أشتري لهم روايات من الأدباء العالميين هم مجموعة من التوافه الذين لا يستحقون أي تقدير. باستثناء البرتغالي العظيم جوزيه ساراماجو ظللت أكتشف خلال العشرين عاماً الماضية أنني كل مرة أسمع اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب لأول مرة، فأحاول مداراة غيظي النابع من إحساسي بالجهل باسمه ورسمه، وذلك بأن أقول لأصدقائي: إن هذه الجائزة مسيسة وفاشلة وليس لها مصداقية، بدليل أنها لم تمنح لكتّاب عظماء منهم على سبيل المثال لا الحصر: البرازيلي جورجي أمادو والمكسيكي كارلوس فوينتس والبيروفي ماريو بارجاس يوسا والألباني اسماعيل كاداريه والتشيلية إيزابيل أليندي والتركيان يشار كمال وعزيز نيسين والتشيكي ميلان كونديرا والأمريكي بول أوستر، وكلهم روائيون عظماء بدليل أنني أعرفهم وأقتني أغلب كتبهم المترجمة وأعشق معظمها، ومع ذلك لم تخترهم اللجنة بالعند فيّ، واختارت أسماء لا أعرف عنها شيئاً لأدباء مغمورين سيئين بالتأكيد، وإلا لكنت قد سمعت عنهم أو وجدت كتبهم المترجمة تملأ المكتبات قبل إعلان الجائزة.

(7)

محمد الماغوط

كيف تتخلف أمة وتظل رهينة الفقر والجهل والاستبداد وفي أرجائها يجري نهر متدفق من الإنسانية والفن والإبداع اسمه محمد الماغوط؟ هكذا كنت أسأل نفسي كلما قرأت كتاباً أو مقالاً أو قصيدة أو شاهدت مسرحية أو فيلماً لمحمد الماغوط. لو عاش محمد الماغوط في بلاد متحضرة لطبعت كلماته على أغلفة كتب المدارس بدلاً من النصائح المعلبة التي تحولت إلى مادة للسخرية، ولعلقت عباراته العبقرية على حوائط الشوارع بدلاً من أقوال السادة القادة، ولاستبدلت قصائده بترهات الحكام المسماة خطابات رئاسية مهمة. لكن محمد الماغوط كان عربياً ولذلك لم يشتهر بين بني وطنه إلا كصاحب فيلم (الحدود) ومسرحية (كأسك يا وطن) ولم يقرأ أحد دواوينه الشعرية الساحرة ولم يلتفت الكثيرون إلى كتبه التي تجمع مقالاته الساخرة التي أعتبرها إعجازاً حقيقياً في تاريخ النثر العربي. عندما مات الماغوط نشرت الأهرام كبرى الصحف المصرية خبره في ثلاثة أسطر في أخبار الصباح في الصفحة الأخيرة، كان مكان نشر الخبر وشكله دليلاً على خيبة مصر القوية في العالم العربي، بينما الحياة اللندنية جعلته الخبر الرئيسي على ثمانية أعمدة في الصفحة الأولى، للأسف هكذا بات يتعامل الأهرام الذي كان جسر التواصل بين مصر والعالم العربي مع رحيل واحد من أهم أعمدة الكتابة العربية.

(8)

أورهان باموق

هناك كُتّاب تحبهم من أول نظرة، وهناك كُتّاب يأتي حبهم بالعشرة والتفاهم، وهناك كتّاب يأتيك حبهم فجأة في ظروف غامضة، بعد أن تكون قد أعلنت كراهيتك لهم على الملأ. الكاتب التركي العظيم أورهان باموق كان من النوع الأخير بالنسبة لي.. أدين بالفضل في إعادة اكتشافي لأورهان باموق إلى بروفيسور أمريكي متخصص في العمارة، قال لي: "لكل روائي مفتاح تدخل به إلى عالمه الروائي، ويختلف هذا المفتاح من قارئ لآخر، فبعض القراء لم يفلحوا في قراءة "يوليسس" لجيمس جويس إلا بعد أن أحبوا مجموعته القصصية "أهالي دبلن"، والبعض لم يفعل إلا بعد أن قرأ "صورة الفنان في شبابه"، ضحكت وأنا أقول له: إنني بعد أن انكسر المفتاح في قفل "يوليسس" أو "عوليس" كما نسميها، قررت أن الحياة يمكن أن تستمر بدونها هي وجيمس جويس أيضاَ، قال لي: "ستستمر الحياة على أي حال، لكن إذا كنت تريد مفتاحاً لأورهان باموق، فعليك بكتابه عن إستانبول، صدقني بعد أن تقرأه ستفهم عالمه الروائي جيداً وأثق أنك ستغير رأيك فيه، هذا على الأقل ما حدث لي".

(9)

الحل في الروايات!

إذا كنت قد قرأت على سبيل المثال لا الحصر ثلاثية نجيب محفوظ أو رواية "جسر على نهر درينا" لإيفو أندريتش أو كافة أعمال أنطون تشيخوف فلن تستغرب كيف يمكن أن يجد الإنسان تلخيصاً لمشكلته بل وحلاً لها في رواية وليس في كتاب علم نفس أو علم اجتماع، فقد قدم هؤلاء العظماء وكثيرون غيرهم أرفع نموذج للأدب الرواي عندما يتجاوز وظيفة الإمتاع والتسلية، أقول يتجاوزها ولم أقل يفقدها، لكي تصبح الرواية رحلة يبحر فيها الإنسان في نفسه وواقعه وأحوال الدنيا والبشر من حوله، كأنه عالم يمسك في يده نظارة معظمة أو ينظر من خلال ميكروسكوب أو تلسكوب ليكتشف تفاصيل مبهرة لم يكن سيدركها بعينه المجردة.

 

 ..

إعداد فريق رفي

تدوينات أضيفت مؤخراً
بين الكتب والقرّاء